خسائر استراتيجية لأوروبا في الاتفاق التجاري مع ترامب.. تعرف على أبرز 10 تأثيرات سلبية

د. أيمن سمير
«إنه الاستسلام الكامل».. «يوم أسود في تاريخ أوروبا».. «ترامب التهم الأوروبيين كما يلتهم الوجبات السريعة على الإفطار».. بهذه العبارات عبر الكثير من الأوروبيين عن مشاعرهم تجاه الاتفاق التجاري الذي أبرمه الرئيس الأمريكي دونالد ترامب مع رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون ديرلاين يوم 27 يوليو الماضي في إسكتلندا، حيث يفرض هذا الاتفاق رسوماً جمركية تصل إلى 15 % على الصادرات الأوروبية إلى الأسواق الأمريكية، بالإضافة إلى ضرورة شراء الأوروبيين غاز ونفط أمريكي بقيمة 750 مليار دولار خلال ثلاث سنوات، أي بمعدل 250 مليار دولار سنوياً، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف ما كانت أوروبا تشتريه من الولايات المتحدة في عام 2024، والذي بلغ 70 مليار دولار فقط، كما يلزم الاتفاق دول الاتحاد الأوروبي باستثمار حوالي 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، ويشمل أيضاً شراء السلاح والذخيرة وغيرها من الأمور الدفاعية من الشركات الأمريكية.

مقال مقترح: الصين تندد بمحاولات الولايات المتحدة المتكررة لتشويه صورتها بسبب فيروس «كورونا»

يعتبر المعارضون لهذا الاتفاق، مثل رئيس الوزراء الفرنسي فرانسوا بايرو، وزعيمة اليمين الفرنسية مارين لوبن، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، أن الاتفاق يمثل «تبعية أوروبية» اقتصادية وعسكرية وجيوسياسية كاملة للولايات المتحدة، وينهي أي أمل في تحقيق «الاستقلال الاستراتيجي» لأوروبا، ليس فقط في المدى القريب والمتوسط، بل قد يمتد ذلك لعقود قادمة، كما ترى شركات السيارات الأوروبية أن هذا الاتفاق قد يضعف من فرص دخول سياراتها إلى الأسواق الأمريكية، بينما يعزز من موقف السيارات الأمريكية في الأسواق الأوروبية، وقد جاءت الانتقادات الأكثر حدة من ممثلي النقابات الزراعية الأوروبية الذين وصفوا الاتفاق بأنه «خيانة» للمزارعين الأوروبيين، مؤكدين أن الاتفاق مع الولايات المتحدة أقل بكثير من الاتفاق الذي وقعته الولايات المتحدة مع بريطانيا، حيث تدفع الشركات البريطانية 10 % فقط على صادراتها للأسواق الأمريكية.

في المقابل، هناك فريق آخر من الأوروبيين يرى أن الاتفاق «مقبول» مقارنة بحالة «عدم اليقين» التي سادت العلاقات الأوروبية الأمريكية قبل التوقيع، ويؤكد هؤلاء، مثل رئيسة الوزراء الإيطالية جورجيا ميلوني، أن عدم التوصل لاتفاق كان يعني فرض رسوم جمركية بنسبة 30 % على الصادرات الأوروبية للولايات المتحدة اعتباراً من أغسطس الجاري، وأن توتر العلاقات التجارية كان سينعكس سلباً على الجوانب السياسية والدعم العسكري الأمريكي، خاصة في ظل استمرار الحرب الروسية الأوكرانية وزيادة المخاوف من توسيع روسيا للحرب في أوكرانيا أو العودة للحرب على الدول الأوروبية في السنوات القادمة، بينما يعتقد فريق ثالث من دول مثل هولندا وبلجيكا وإسبانيا أن اتفاق ترامب مع فون ديرلاين «غير عادل لكنه اتفاق الضرورة» لتجنب نشوب حرب تجارية عبر الأطلسي، مما يطرح العديد من الأسئلة حول التداعيات الجيوسياسية لهذا الاتفاق، وهل بالفعل ينهي أي محاولة لتحقيق «الاستقلال الاستراتيجي» الأوروبي، وما إذا كانت الدوافع التجارية وحدها وراء مواقف المؤيدين والمعارضين، وما هي خيارات الأوروبيين لتحقيق مكاسب من هذا الاتفاق وتفادي آثاره السلبية، وإلى أي مدى يمكن أن يسمح الرئيس ترامب للأوروبيين بالتحايل على الاتفاق كما حدث في الاتفاق الأمريكي الصيني في يناير 2020.

10 خسائر استراتيجية

بعيداً عن الأرقام، يشعر الكثيرون في الاتحاد الأوروبي بأن تهديد ترامب بفرض رسوم 30 % اعتباراً من أغسطس الجاري، بعد أن فرض بالفعل رسوم بنحو 27.5% منذ إبريل الماضي، مع انصياع الأوروبيين لمطالبه، يضعف الصورة النمطية الأوروبية أمام مواطنيها وحلفائها ومنافسيها، حيث رفض ترامب أي اقتراح يقلص الخلل في الميزان التجاري بين أوروبا والولايات المتحدة بشكل متوازن، ورغم أن الميزان التجاري لصالح أوروبا بنحو 230 مليار دولار، ويتم تبادل السلع والخدمات عبر الأطلسي يومياً بنحو 4.4 مليار دولار، إلا أن ترامب حصل على 250 مليار دولار سنوياً كمشتريات أوروبية من الغاز الأمريكي المسال، و600 مليار دولار استثمارات تضاف إلى نحو 6 تريليونات دولار استثمارات أوروبية في الولايات المتحدة، و15 % رسوم جمركية قد تدر على الولايات المتحدة نحو 220 مليار دولار إضافية، مما دفع العديد من السياسيين خارج «تحالف الشعب» الذي تقوده فون ديرلاين لطرح تساؤلات حول مستقبل الاتحاد الأوروبي وقدرته على تحقيق «الاستقلال الاستراتيجي» بعيداً عن المصالح الأمريكية تجاه روسيا والصين، خصوصاً في ظل اعتقاد البعض بأن الاتفاق مع ترامب سيلحق خسائر جيو-سياسية بالاتحاد الأوروبي على عشرة مسارات رئيسية وهي:

أولاً: الصناعات العسكرية

تعاني الدول الأوروبية من نقص حاد في السلاح والذخيرة منذ بداية الحرب الروسية الأوكرانية، حيث تستهلك القوات الأوكرانية نحو 250 ألف قذيفة شهرياً، ولهذا بدأ الاتحاد الأوروبي في اتخاذ خطوات لتعزيز الصناعات العسكرية، حيث اعتمدت المفوضية الأوروبية خطة بقيمة 800 مليار يورو هذا العام لدعم القدرات التصنيعية للدول الأعضاء ذات الاقتصاديات الضعيفة، لكن الاتفاق التجاري الجديد يتطلب من دول الاتحاد الأوروبي شراء المزيد من السلاح والذخيرة الأمريكية، مما يعني دعم الصناعة العسكرية الأمريكية بدلاً من تعزيز خطوط الإنتاج الجديدة في أوروبا، حيث يأمل الاتحاد الأوروبي أن يبدأ الإنتاج بحلول نهاية 2027، مما سيؤدي إلى منافسة شديدة لمصانع شركات مثل إيرباص وداسو من الشركات الأمريكية العملاقة مثل لوكهيد مارتن وبوينغ ونورثروب جرومان وجنرال داينامكس ورايثيون تكنولوجيز، حيث ينص الاتفاق على زيادة الاعتماد الأوروبي على التكنولوجيا العسكرية الأمريكية.

ثانياً: حلم الجيش الأوروبي الموحد

تزايدت القناعات الأوروبية بضرورة تأسيس «جيش أوروبي موحد» بعد التحديات الجيوسياسية التي فرضتها الحرب الروسية الأوكرانية، لكن مع هذا الاتفاق الجديد، أصبحت جميع الأمور المتعلقة بالشؤون الدفاعية مرهونة بإرادة البيت الأبيض، حيث يوجد التزام أوروبي بشراء السلاح والذخيرة الأمريكية وفق بنود الاتفاق التجاري، بالإضافة إلى الالتزام تجاه حلف «الأطلسي» بإنفاق 5 % من الناتج القومي للدول الأعضاء في الحلف على شراء السلاح والذخيرة.

ثالثاً: المكانة العسكرية لفرنسا

بعد خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، كانت فرنسا تأمل في أن تكون الواجهة العسكرية لأوروبا، خاصة أنها تمتلك أكبر جيش في أوروبا وصناعات عسكرية قوية، وكانت دائماً من بين الخمسة الكبار في تصدير السلاح خلال العقد الأخير، لكن الاتفاق التجاري الجديد سيجبر الدول الأوروبية، خصوصاً ألمانيا وإسبانيا وإيطاليا، على شراء السلاح الأمريكي، مما يهدد الفرصة التي كانت تنتظرها شركات السلاح الفرنسية لتعزيز الجيوش الأوروبية، حيث تتحدث وسائل الإعلام الأوروبية عن بنود سرية في الاتفاق تلزم الأوروبيين بشراء كميات أكبر من السلاح الأمريكي، مما قد يؤدي إلى توقف مشروع «سكاف» المقاتلة الأوروبية من الجيل السادس، وهو ما دفع شركات السلاح الفرنسية إلى انتقاد الاتفاق بقوة.

رابعاً: نهاية عصر الازدهار

منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كانت التجارة الحرة عبر الأطلسي مفتاح الازدهار الأوروبي، لكن التقديرات بعد توقيع الاتفاق تشير إلى أن الاتفاق مع ترامب سيزيد من سقف الديون الأوروبية، حيث لا ينبغي أن يزيد العجز في أي ميزانية أوروبية على 3 % من الناتج القومي، لكن مع 15 % كرسوم جمركية عند دخول السوق الأمريكية، وشراء الغاز المسال الأمريكي الأعلى سعراً، وضرورة استثمار 600 مليار دولار في الاقتصاد الأمريكي، بالإضافة إلى الالتزام بنسبة 5 % من الناتج القومي على الشؤون الدفاعية، فإن سقف الديون الأوروبية سيرتفع لأكثر من 3 %، مما سيعطل أي مشروع استراتيجي أوروبي.

خامساً: اعتمادية أوروبية

تعلم الأوروبيون من الحرب الروسية الأوكرانية ضرورة الاستقلال عن روسيا في مجالات الطاقة، لكن العديد من الدول الأوروبية ترى أن الاتفاق الأخير هو استبدال «تبعية بتبعية أخرى»، حيث سيؤدي الاتفاق إلى «تبعية كاملة» للولايات المتحدة في مجال الطاقة، مما يجعل أوروبا رهينة لتقلبات الطاقة الأمريكية، حيث كان الغاز الروسي أرخص بكثير، بينما الغاز الأمريكي المسال أغلى بنسبة 30 %، بالإضافة إلى ضرورة بناء محطات «تغويز» لاستقبال الغاز الأمريكي، مما يفقد الأوروبيين «ورقة الغاز الروسية» في أي مفاوضات مستقبلية مع روسيا.

سادساً: الملف الأوكراني

رغم عدم التوصل إلى التفاصيل النهائية للاتفاق، إلا أن السبب الرئيسي لقبول الأوروبيين هو ربط البيت الأبيض بين دعم واشنطن لأوكرانيا وبين هذا الاتفاق، مما يعني تراجع الدور الأوروبي لصالح الولايات المتحدة في الملف الأمني والعسكري الأوكراني.

من نفس التصنيف: تايلاند تستعيد تقاليدها القديمة وتجند الفيلة في الحروب!

سابعاً: إضعاف التضامن الأوروبي

أظهر اختلاف درجات الدعم والمعارضة للاتفاق الخلافات الأوروبية، حيث عارض اتحاد الصناعات الألماني الاتفاق، بينما دعمت الحكومة الألمانية والمستشار الألماني فريدريش ميرتس الاتفاق، بينما رفضت دول مثل فرنسا الاتفاق تماماً، مما يعكس «تآكل التضامن الأوروبي».

ثامناً: الاستقلال الاستراتيجي

يفتح الاتفاق التجاري الجديد جبهة جديدة أمام الأوروبيين، حيث سعى الأوروبيون للحفاظ على الاتحاد الأوروبي كقطب ثالث في المعادلة الدولية، لكن ربط جميع الأمور الأوروبية بالولايات المتحدة يهدد «الاستقلال الاستراتيجي» لأوروبا، حيث ينص الاتفاق على شراء أوروبا 50% من الرقائق الإلكترونية من الشركات الأمريكية بحلول نهاية 2026، مما يعني تفكيك مقومات الاستقلال التكنولوجي، وتحويل أوروبا إلى «مستهلك تكنولوجي» بدلاً من منافس عالمي، حيث ستشكل 78 % من البنية الرقمية الجديدة في الاتحاد الأوروبي من الولايات المتحدة.

تاسعاً: أمريكا فقط

يلزم الاتفاق الدول الأوروبية بإنهاء أي اتفاقيات تعاون عسكري مع الصين، مما يضيق من مساحة المناورة أمام أوروبا، بالإضافة إلى أن آلية التشاور الإجباري تمنح واشنطن حق النقض على 28% من القرارات الخارجية الأوروبية.

عاشراً: صورة نمطية ضعيفة

يقلق الأوروبيين أن يرسم هذا الاتفاق «صورة نمطية عن أوروبا الضعيفة» التي استسلمت لواشنطن، حيث تراقب العيون الأوروبية كيفية تعامل الصين والهند والبرازيل واليابان وأستراليا مع أوروبا مستقبلاً، مما يثير المخاوف من محاولة هذه الأطراف فرض شروط لم تكن لتطرح على طاولة المفاوضات قبل اتفاق أوسولا فون ديرلاين مع ترامب، ومن المؤكد أن أوروبا ستواجه تحديات عديدة، ليس فقط في دفع الرسوم الجمركية والاستثمارات وأسعار الطاقة للولايات المتحدة، بل عليها أيضاً بناء استراتيجية جديدة تحافظ بها على مشروعها الداخلي ومكانتها على المستوى العالمي.

التعليقات

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *